كثيرًا ما يقع الناس في بلبلةٍ بين مصطلحي الترجمة الآلية (Machine translation) والترجمة بمساعدة الحاسوب أو الترجمة المحوسبة (Computer-assisted translation). فالأولى هي ترجمة تصنعها الآلة من الألف إلى الياء مثل: ترجمة جوجل المعروفة، أما الثانية فهي برامج تساعد المترجم وتعينه في أداء عمله، والهدف منها إعانة الإنسان على عمله لا الاستعاضة عنه بالحاسوب.
تُعد الترجمة الآلية آفة سيئة إن استخدمت دون تنقيح ولا مراجعة، في حين أن الترجمة المحوسبة أداة لها فوائدها إن أحسن استخدامها وتوظيفها بالأسلوب الصحيح. ولهذا أصبحت مطلوبةً في سوق العمل، بل وشرطًا ومن شروط توظيف المترجم في قطاعات عدّة. لكن ما هي وظائف الترجمة بمساعدة الحاسوب، وكيف تستخدم أدوات الترجمة بمساعدة الحاسوب للترجمة كالمحترفين؟
أصل الترجمة الآلية
نشأ في مدينة الكوفة أيام العباسيين عالمٌ قديرٌ اسمه يعقوب بن يوسف، كان ابنًا لشيخٍ من شيوخ قبيلة كِندة العربية فلُقِّبَ بالكندي. ولمعَ في الفلسفة والعلوم فلفتَ انتبه الخليفة المأمون وجعله رئيسًا لبيت الحكمة آنذاك وما فيه من نقلٍ وترجمة للعلوم والفلسفة اليونانية إلى العربية.
يُنسب إلى الكندي الفضل في نقل الأرقام الهندية إلى اللغة العربية ومنها إلى أوروبا. ولعله استمدَّ من عمله هذا اهتمامًا بتحليل الشفرات الذي سُمِّي حينئذٍ “علم التعمية”، فطوَّر فيه أساليب إحصائية تستنبط اللغات التي كُتِبَ بها النص وتُهيّئ لترجمتها أو “فك شفرتها”. وبعد وفاته بأحد عشر قرنًا وظَّف عالم رياضيات أمريكي اسمهُ (وارين ويفر) أبحاث الكندي في اختراع “الترجمة الآلية” عام 1949.
أولت الحكومة الأمريكية هذه التقنية اهتمامًا شديدًا أملًا في ترجمة النصوص الروسية إلى الإنجليزية آليًا؛ لخدمة أهدافها في الحرب الباردة. ولكن برامج الترجمة البدائية تلك اعتمدت على استبدال كلِّ كلمةٍ في الروسية بكلمةٍ إنكليزية تقابلها في المعنى. أي أنها سارت على خطى الترجمة الحرفية التي تقتبس النص الأجنبي كما هو دون تكييفٍ لأسلوبه ومعناه. وهذا خطأ منهجي أعطى الترجمة الآلية سمعة رديئة لحقت بها لأكثر من نصف قرن، لكن بعض شركات الترجمة أدركت في الفترة الأخيرة فائدة الحاسوب في زيادة الجدوى الاقتصادية لعملها.
وظائف الترجمة بمساعدة الحاسوب
الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الترجمة بمساعدة الحاسوب هي أن معظم الجمل المستخدمة في اللغة -خصوصًا في الكتابات المهنية- تتّسم بتكرار كبير لتراكيب نحوية واصطلاحية متماثلة. وبالتالي لا يحتاج المترجم لإضاعة وقته بها إذا كان يستطيع الرجوع إلى برنامج آلي يحفظ ترجمة الجملة نفسها من عمل شخصٍ آخر. وقد تُخفِّض هذه البرامج وقت الترجمة إلى النصف تقريبًا، فتزيد من ربح المترجم أو شركة الترجمة -لقاء كلّ ساعة عمل- إلى الضعف أو نحوه.
وسبب هذه الزيادة، وربّما أهم ميزةٍ لبرامج الترجمة بمساعدة الحاسوب، هي أنها تحفظ قاعدة بياناتٍ شاملة لجميع المفردات والجمل الأجنبية وترجماتها التي اختارها المترجم سابقًا، وتُسمَّى هذه البيانات “ذاكرة الترجمة” (Translation memory). وتعتمد هذه الذاكرة على فكرة بسيطة، وهي أن معظم ما يتحدث به الناس هو تكرارٌ لعددٍ محدودٍ من المفردات والتراكيب اللغوية، فلو حفظ البرنامج كل جملة يختارها المترجم مع أصلها الأجنبي فإنه يقلّل عبء العمل بدرجة كبيرة، وكذلك يتمكن من توحيد المفردات والصيغ التي يكتب بها، وهذه ميزة قيّمة جدًا.
تتضمَّن بعضٌ من برامج الترجمة بمساعدة الحاسوب الاحترافية ميزاتٍ ممتازةٍ منها تقييم جودة الترجمة والأخطاء اللغوية، والوصول الفوري إلى المعاجم والقواميس لمراجعة معاني المفردات، والوصول إلى قاعدة بيانات عملاقة من ذواكر الترجمة التي استخدمها مئات المترجمين أو آلاف المترجمين قبلك، مما يزيد الترجمةَ سرعةً وسهولة.
كيف تستخدم الترجمة المحوسبة
للاعتمادية المفرطة على برامج الترجمة المحوسبة مشكلاتها أيضًا. فهي تحصرُ اختيارات المترجم في الصياغات السهلة والركيكة بدلًا من تشجيعه على تطوير أسلوبه البلاغي وملكته اللغوية، ممَّا قد يكون مضرًا جدًا بمن يهتم بإتقان الترجمة جماليًا وفنيًا. والمسعى الرئيسي لهذه البرامج، إن نظرنا عليها بالعموم، هو تقليل أعباء الترجمة ومجهودها وليس رفع جودتها، وهذا اختلاف مهم جدًا.
تكمن فائدة الترجمة بمساعدة الحاسوب حين نقل مستندات ووثائق رسمية أو تجارية. فهذه الترجمة ليست لها وظيفة جمالية ولا يقرأها الإنسان للمتعة أو الترويح وإنما للضرورة، ولهذا فإنَّ الحاجة فيها للإبداع البشري قليلة. وبالتالي فإنَّ المكان الصحيح لاستخدام هذه البرامج هو الترجمة المهنية، ومن أمثلتها، تعريب كتيبات استخدام الأجهزة الإلكترونية والسيرة الذاتية وأوراق العمل وغير ذلك.
وأما ترجمة الآداب والعلوم والمقالات المعرفية الموجهة لعموم الناس فلا يستحسن أن تدخل فيها الترجمة بمساعدة الحاسوب بكثرة. لأنها تشجع على التوجه نحو النقل الحرفي فيدفع القارئ ثمن ذلك، وهذه مشكلة في أنواع الترجمة التي تسعى لنقل جمال اللغة أو نشر المعلومات. تتعدد أمثلة برامج وأدوات الترجمة بمساعدة الحاسوب الاحترافية، لكن أغلبها ذا تكلفة مرتفعة مثل:
- SDL Trados Studio: أكثر البرامج استخدامًا وانتشارًا في سوق العمل الاحترافي. ويتضمّن جميع الميزات والإضافات التي يحتاجها المترجم، وتكلفته ليست أقلَّ من فوائده، فقد لا يكون في متناول المترجم المستقل أو الحر.
- Wordfast: إضافة يمكن إلحاقها ببرنامج مايكروسوفت وورد لتحويل أي مستندٍ إلى وضع مناسب للترجمة. وهو مُوجَّه للمترجم الحرّ وكذلك للشركات الكبرى. وفيه ميزة تجربة مجانية لكن تكلفته -وهو مدى الحياة- قد تكون مرتفعةً بالنسبة لدخل المترجمين في العالم العربي.
على صعيد آخر، يوجد عددٌ أقل من البرامج المجانية التي يمكن للمترجمين المستقلين وغيرهم استخدامها. أشهرها هو برنامج OmegaT مفتوح المصدر.
كيفية تستخدم برنامج OmegaT
يتميز OmegaT بأنه برنامج مفتوح المصدر، موجّه إلى المترجمين المحترفين في قطاع العمل. فهو متوفر للتحميل مجانًا وشفرته البرمجية مفتوحة فيمكن لمن شاء المشاركة في تطويرها وتحسينها. يوفر البرنامج معظم الميزات المرادة في برامج الترجمة بمساعدة الحاسوب الاحترافية، ففيه نظام ممتاز لذاكرة الترجمة مع إمكانية البحث فيها ومراجعة الترجمات السابقة التي اختارها المترجم وإنشاء مسرد للكلمات والبحث في المعاجم والتدقيق الإملائي.
البرنامج نفسه مترجم إلى 27 لغة من ضمنها العربية، إذ يمكنك تنصيبه بالعربية واستخدامه بها بالكامل. كما أنه يدعمُ الكتابة من اليمين إلى اليسار، ويمكن تحميل نسخة منه لمعظم أنظمة التشغيل من موقعه الرسمي. بمجرد التنصيب، يمكنك البدء باستخدام OmegaT في الترجمة مباشرة، ولذلك تتبع الخطوات الأساسية الآتية:
1. إنشاء ملف للمصدر: يجب أن تحفظ النص الذي ترغب بترجمته في ملف على حاسوبك. لك أن تحفظ الملف بأي صيغة معروفة للمستندات النصية مثل .docx و.odt و.rft، ولا يلزم تنسيقه بصورة خاصة.
2. إنشاء المشروع: إن كان الملف النصي موجودًا على جهازك فيمكنك فتح برنامج أوميغا تي وبدأ العمل عليه. يُقسّم البرنامج كل الوثائق التي تعمل على ترجمتها إلى “مشاريع” (Projects). ولهذا عليك أن تبدأ بإنشاء مشروع جديد في البرنامج، واختيار اللغة التي تريد الترجمة منها (الإنكليزية مثلًا) وإليها (العربية في حالتنا).
3. استيراد ملف المصدر: خطوة سهلة جدًا، كلّ ما عليك هو الضغط على اختيار “استيراد ملفات المصدر” واختيار الملف النصي للترجمة من حاسوبك.
4. ابدأ بالترجمة: يُقسّم البرنامج تلقائيًا إلى ملف نصيّ إلى “مقاطع” (segments) لتسهيل عمل المترجم. إذ ليس عليه إلا نقلها كلٌّ منها على حدة. عليك أن تنتبه إلى أن البرنامج يستخدم رموزًا برمجية لتنسيق النصّ ضمن هذه المقاطع، فلو كان النص مائلًا في ملف المصدر قد يظهر في البرنامج بين رموز غريبة (<f1>نص مائل</f1>)، وعليك أن تترجم ما بين هذه الرموز دون مساسٍ بها.
5. استفد من ميزات البرنامج: قد يكون من المحبط بعض الشيء أن البرنامج -لكونه مجانيًا على الأرجح- يتطلب من المستخدم بعض الجهد. فالمعاجم أو “مسردات المصطلحات” كما يسميها ليست متوفرة فيه تلقائيًا. بل على المستخدم أن يبحث على الإنترنت عن مسرد بالعربية والإنجليزية على شكل جدول إكسل، ثم يحمله ويضيفه إلى مجلد اسمه “glossary”. وحين الترجمة سوف يظهر لك شرح أي كلمة تصادفك تلقائيًا على يمين الشاشة إن كانت متضمنة في المسرد. كما يمكنك إضافة المفردات إلى المسرد في أي وقت تريده لبناء “ذاكرة ترجمة” لك.
6. راجع النتيجة: بعد الانتهاء من الترجمة داخل برنامج أوميغا، يمكنك حفظ الملف والتوجه إلى مجلد “target” للاطّلاع على نتيجة عملك. سوف يظهر الملف بنفس تنسيقه وشكله الأصلي ومع ترجمة كاملة.
في كل مرة تستخدم فيها برنامج OmegaT، سوف يحفظ البرنامج تلقائيًا ترجمة كل “مقطعٍ” إلى العربية ويقارنها بالمقطع الإنجليزي؛ لإنشاء ذاكرة الترجمة (وهو يخزنها بملف صيغته .tmx). وفي كل مرة تعود فيها إلى استيراد ملف نصي جديد، سوف يقارنه البرنامج تلقائيًا بذاكرة الترجمة المخزنة لديه. فإن صادفت جملة ترجَمتها من قبل فإنَّه يعرض عليك الترجمة السابقة، أو يسمحُ لك بترجمة أجزاء من المستند آليًا اعتمادًا على اختياراتك السابقة.
قد لا يبدو برنامج أوميغا تي مفيدًا جدًا عند الاستخدام الأول. لأنه يتوجب عليك بدء بناء ذاكرته الترجمية ومسرده المعجمي من الصّفر. لكن لو كنتَ تترجمُ بكثرةٍ وفي موضوعات متشابهة فإنه سرعان ما سيجلب عائده، وسوف ترى النتائج في كلّ مرة تظهر لك ترجمة تلقائية من ذاكرة الترجمة. فيسهّل بذلك عمل المترجم ويقلّل أعباء وظيفته. وإن كنتَ لا تفضل الاستثمار بجهدك، فيمكنك دومًا الاستثمار بمالك في شراء برمجيات أخرى للترجمة تتوفر فيها معاجم وذواكر ترجمية خزّنها البرنامج من آلاف المترجمين قبلك.
وصحيح أن الترجمة تبقى عملًا للإنسان وأنها تحتاج إلى لمسة المترجم الإبداعية وملكته اللغوية. لكن الاستعانة بالحاسوب والآلة فيها -إن ظلَّ ذلك ضمن السياق الصحيح وبالأسلوب المناسب- هو استفادة مسموحة وضرورية من التقنية المتوفرة بين أيدينا. وقد تدفع مهنة الترجمة إلى الأمام وترفع من قيمتها وقيمة المترجم في سوق العمل.
تم النشر في: نوفمبر 2020
تحت تصنيف: العمل الحر | ترجمة
شكراََ
مقال ممتاز، شكرا لكم