الكسل الإبداعي Creative Leisure: كيف تجعل الراحة وقودًا للإبداع؟

“أنا ضد الكسل. أنا لست كسولاً على الإطلاق”. بهذه الكلمات أكد عالم الاجتماع الإيطالي “دومينيكو دي ماسي” مبتكر مفهوم الكسل الإبداعي Creative Leisure أنه لم يقصد من مفهومه أن يكرس الإنسان حياته للاستمتاع دون إبداع ولا مال، ولا أن يعمل بجد أكثر مما ينبغي مثل النملة التي تكاد تموت من التعب.

لا شك أن العمل الجاد والانشغال الدائم وجني المال أهداف يقدرها ويسعى لها الكثيرون، في حين لا يحظى التراخي والكسل بالتشجيع والشعبية نفسها. ولكن إذا فهمت ما قد يفعله “الكسل الإبداعي” بعقلك قد يتغير رأيك وربما تشجع عليه!

جدول المحتويات:

ما هو الكسل الإبداعي؟

الكسل الإبداعي Creative Leisure هو الموازنة بين العمل والترفيه والدراسة مما يؤدي إلى وظيفة ممتعة، تسفر هذه الموازنة عن أوقات أخرى -غير ساعات الدوام- التي تعمل فيها دون أن تدري، مثلًًا عندما تتجول قليلا على قدميك، أو تقضي وقتًا أسريًا دافئًا مع عائلتك أو تجرب أحد مشاريعك الشخصية الصغيرة التي لا تدر دخلًا مباشرًا.

فسر “دي ماسي” ظهور مفهوم الكسل الإبداعي في عام 2000 كأحد ظواهر عالم ما بعد الحداثة (بدءًا من تسعينيات القرن العشرين) حيث حدثت قفزة تكنولوجية هائلة غيرت من هياكل العمل وأصبحت معظم الأعمال الروتينية المملة تكلف بها الآلات، فيما احتكر الإنسان الأعمال التي تحتاج إلى إبداع وتفكير واتخاذ قرار وحل مشكلات… إلخ.

ما هو الكسل الإبداعي

في عصر الحداثة (عصر الصناعة الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية) كان التركيز على زيادة عدد ساعات وأيام العمل وكانت الوظيفة هي نواة وقت الإنسان التي لا يمكن التعديل عليها. تغيرت هذه المفاهيم في عصر ما بعد الحداثة مع سقوط الاتحاد السوفيتي وظهور الإنترنت وتسارع التكنولوجيا، وتم إعادة تقييم الوقت ونما اتجاه إلى تقليل عدد ساعات الدوام ومرونة أوقات العمل وتحقيق التوازن بين الوظيفة والحياة الشخصية بما يؤدي إلى عمل أكثر سعادة.

في الكسل الإبداعي تتضافر هذه الاتجاهات معًا، العمل الذي يجلب المال، والدراسة التي تنمي المعرفة، وأوقات الفراغ التي تجلب السرور. يحتاج الجمع بين هذه المتناقضات إلى جهد ووعي وتفاؤل واقعي يرى أنه من الممكن الاستمتاع برفاهية الفراغ إلى جانب الالتزام بأداء العمل الذي هو مصدر المال.

أجريت العديد من الدراسات التي أثبتت فوائد الكسل الإبداعي، وجدت إحداها أن تركيز الأشخاص في أداء مهام محددة يثبط نشاط مناطق معينة في الدماغ مثل القشرة الأمامية والحصين. تنشط هذه المناطق -التي يشار إليها في علم الأعصاب باسم شبكة الراحة أو شبكة الوضع الافتراضي- بشدة في فترات الكسل عندما لا يركز الإنسان على مهمة محددة ما يعني زيادة تدفق الدم إلى الدماغ وبالتالي دماغ أكثر صحة وإبداعًا.

من المعلوم أن الإبداع لا يولد فجأة بل يتطلب أولًا “فترة حضانة” يكون للكسل دور أساسي فيها، مثال تفكر في مشكلة أو مشروع وتجمع عدة أفكار حوله ثم تأخذ قسطًا من الراحة بقضاء الوقت في التنزه أو المشي أو أي روتين آخر خارج العمل، أثناء ذلك يعمل عقلك على المشروع أو المشكلة دون وعي ويبدأ في تنقية الأفكار والوصول إلى حلول وإجابات للمشكلات الإبداعية والفكرية والعملية.

يتضح مما سبق أن الكسل لا يعني التسويف، إذ يوجد فرق بين الكسل الإبداعي والتسويف. التسويف أو المماطلة هو أحد أهم أعداء الإنجاز والنجاح، على العكس من ذلك يدعم الكسل الإبداعي أداء العمل ويحسّن من عملية اتخاذ القرار لأنه يعمل بمثابة فصلًا للطاقة بحيث يسمح بإعادة تنشيط الدماغ لتعمل بكامل كفائتها.

6 أفكار لإدخال الكسل الإبداعي إلى نظامك الحياتي

1. نوَّع أنشطتك اليومية

في أوقات الفراغ قاوم انجذابك إلى الأنشطة التي تحتاج إلى تركيز على المحتوى أو التفاصيل، واختر نشاط لا يحتاج إلى انتباه أو يحتاج إلى القليل فقط مثل المشي، وتنظيف المكتب أو الغرفة، وممارسة تمارين التمدد.. إلخ. وفي أوقات العمل خصص وقتًا للمهام التي تتطلب تركيزًا عاليًا وأخرى روتينية لا تتطلب ذلك.

إذا كنت تعمل في أحد المهن الإبداعية كالكتابة والتصميم أو الحرف اليدوية، خصص وقتًا لممارسة الأنشطة التي تدعم الموهبة وتصقل حرفتك وتمدك بالإلهام والإبداع. وإذا كان عملك مرتبطًا بالعلاقات مع الجمهور أو الآخرين، خصص وقتًا لتحسين مهارات التعامل مع الآخرين مثل التواصل والذكاء العاطفي.

2. كرّس وقتًا للتفكير العفوي

في عام 2012 توصل الباحثون إلى أن السماح لعقلك بالشرود يمكن أن يؤدي إلى حل إبداعي أفضل للمشكلات. شرود الذهن هو ترك الأفكار العفوية تتدفق في عقلك بحرية دون مقاطعة، حيث تتحرر الذكريات والمشاعر والمعلومات العشوائية المخزنة ويطفو بعضها على السطح. يساعد ذلك في الوصول إلى منظور جديد حول أمر ما أو ربط فكرتين منفصلتين للتوصل إلى فكرة جديدة.

من المؤكد أن كل القيادات الناجحة التي تراها حولك تمارس بشكل أو بآخر عادة شرود الذهن بانتظام مما يتيح لها ابتكار أفكار إبداعية أفضل، لذلك من الآن فلاحقًا لا تبخل على الصمت بوقتك، خصص وقتًا للهدوء فقط مثل التفكر في الطبيعة أو القيادة بدون راديو أو غسيل الصحون.

3. تخلص من سموم التكنولوجيا

نحرص على استغلال كل دقيقة من أوقات الفراغ، قد نستمع إلى البودكاست أثناء المشي أو نرد على رسائل الأصدقاء بينما نتناول الطعام، أو نتصفح مواقع التواصل الاجتماعي في الذهاب والإياب. تضيع غالبية أوقات فراغنا في هذه الأمور رغم أننا نرى أن الأربع وعشرين ساعة لا تكفي لتحقيق كل ما نريد.

القيمة المتصورة من القيام بأشياء كثيرة هي في الحقيقة وهم، والمغالاة في الاهتمام بإستغلال كل دقيقة هو أحد أبرز أخطاء إدارة الوقت التي تعزز من إرهاق الذهن وتحد من القدرة على الإبداع.

عندما تكون أعيننا على الهاتف تعمل أدمغتنا بطريقة مختلفة تمامًا عما تكون عليه في لحظات الاسترخاء التي تحفز الإبداع. كما أشرنا يلزم تخصيص وقت للهدوء دون ممارسة أي أعمال أخرى تستقطب الانتباه، ولن يحدث ذلك بدون الإقلاع عن سموم التكنولوجيا أحد أعداء الكسل الإبداعي.

لا تتردد في التخلص من هذه المثبطات العقلية، قلص وقت مشاهدة التلفاز واقلِع عن مواقع التواصل الاجتماعي، قلل الوقت المخصص لها وابق على حساب واحد فقط الأكثر أهمية، افحص على الدوام المحتوى الذي تتابعه واستمر في متابعة المحتوى الأكثر قيمة فقط.

تخلص من عادة التصفح بلا هدف واغلق الهاتف فورًا بعد الانتهاء مما تفعل، قد تلهمك قراءة تجارب الآخرين عن غلق حساباتهم الاجتماعية واكتشاف كيف تغيرت حياتهم للأفضل وكيف تمكنوا من السير عكس التيار والانفصال عن القطيع.

4. لست كبيرًا على المرح

كمرادف لتحسين الحالة النفسية فإن الضحك يجلب فوائد لا تحصى، فكر في الأشياء التي تضحكك وافعل المزيد منها، استمتع بصحبة الأصدقاء المرحين فالمرح معدي، انضم إلى أحد الأنشطة الجديدة -هواية أو رياضة مثلًا- غير المعتادة بالنسبة لك وتذوق تأثيرها الجديد على حياتك. شارك الآخرين اللعب من الأبناء والأهل أو حتى الحيوانات الأليفة.

5. تردد على البنية التحتية للكسل

في العديد من بقاع العالم نلاحظ أن المدن الخصبة فكريًا هي المدن التي نجحت في استقطاب أعداد كبيرة من المواهب والمبدعين، لأن اجتماع هؤلاء معا كان فرصة لتلاقي الأفكار الإبداعية ولبنة للكثير من الإنجازات البشرية. البنية التحتية للكسل هي الأماكن التي يلتقي فيها الغرباء الباحثين عن الاسترخاء مثل المقاهي والمطاعم فتبدأ جذور الصداقة والتعاون في النمو.

في سياق الحديث عن الكسل الإبداعي، ارتد هذه النوعية من الأماكن في محيطك، من المحتمل أن تتحول هذه اللقاءات العفوية بين العقول المسترخية إلى فرص للتعاون في مشاريع إبداعية وقودها طاقة الجماعة بدلا من الفرد.

6. خذ عطلة طويلة

أثناء كلمة ألقاها في Ted شرح “ستيفان ساغمايستر” مصمم الجرافيك النمساوي، كيف أنه يغلق الاستوديو الخاص به كل سبع سنوات لمدة سنة لكي يجري بعض التجارب الصغيرة والأشياء التي من الصعب أن يحققها خلال سنة العمل العادية بسبب ضغوط العمل.

فسر “ساغمايستر” هذه العادة تفسيرًا منطقيًا، قائلًا:

الإنسان يقضي أول 25 سنة من حياته في التعليم، تليها 40 عامًا في العمل، ثم مرحلة التقاعد التي تصل إلى 15 عامًا. إذا اقتطعنا 5 سنوات من التقاعد ووزعناها بين سنوات العمل، سيسمح ذلك بتدفق الإبداع مجددًا إلى العمل بصورة أكبر.

أسفرت سنوات العطلة المتفرقة عن تحسن في أداء الاستوديو وتولى بعدها إنجاز مشاريع أكثر إبداعًا بأسعار أعلى. “ساغمايستر” ليس وحده فبحسب من يفعل ما قال، الطاه الشهير “فيران أدريا” بالمثل في مطعمه وتمنح شركتي جوجل و3M مهندسيها ما يصل إلى 20% من وقت العمل لإنجاز مشاريعهم الشخصية.

تبدو هذه العطلات الطويلة فرصة ثمينة لتعلم وتجربة أشياء جديدة. لا يملك الكثيرون رفاهية كالتي يملكها هؤلاء، لكن من الممكن استبدال هذه العطلة الطويلة بأسبوع أو اثنين أو شهر، بل في أوقات تفشي الوباء كالتي نمر بها، تمثل تلك فرصة ثمينة لإعادة ترتيب أوراق التخطيط للمستقبل واكتساب مهارات جديدة أو تعلم المزيد عن تخصصك.

الكسل الإبداعي ليس مفهومًا غريبًا عن ثقافتنا، يقول الأثر العربي:

رَوحِوا عن القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا ملَّت عميت.

تمر الساعات والأيام والأسابيع بسرعة كبيرة دون أن نشعر، طريق نسير فيه جميعًا ولا تزال هناك أوقات للحلم والإبداع والنمو. آمل أن تلهمك السطور السابقة بالنظر في أوقات الفراغ من منظور جديد. وشاركنا في التعليقات أدناه كيف تمضي أوقات فراغك بشكل فعال.

تم النشر في: تطوير المهارات